«التاريخ يعيد نفسه» في غزة: أن تخسر بيتك من جديد

طفلات في طريق عودتهن من المدرسة بين ركام منزل دمره الاحتلال الإسرائيلي في عدوان أيار في بيت لاهيا. تصوير آن باك.

«التاريخ يعيد نفسه» في غزة: أن تخسر بيتك من جديد

الإثنين 04 أيلول 2023

شهدت غزة في أيار 2023، عدوانًا عسكريًا إسرائيليًا جديدًا، قصفت «إسرائيل» خلاله منازل الفلسطينيين لمدة خمسة أيام، فشرّدت ما يزيد عن 1200 شخص، وقتلت 43 فلسطينيًا. بحسب إحصاءات مركز الميزان لحقوق الإنسان دُمر 109 منزل خلال العدوان، بينما تضرر 640 منزلًا أضرارًا جزئية. غالبًا ما يغفل الصحفيون ممّن يغطون روايات الخسائر والفقدان هذه عن عامل حاسم: 70% من سكان قطاع غزة هم لاجئون من المدن والقرى المطهرة عرقيًا في فلسطين التاريخية. لذلك، فإن من بين العائلات التي خسرت منازلها في العدوان الأخير، أناس كانوا لاجئين سابقًا. وبهذا فإن خسارة منازلهم في أيار ليست إلا جزءًا من قصة طويلة من الفقدان والطرد والقهر الذي أثر على عدة أجيال من عائلاتهم، بدءًا من نكبة عام 1948. 

يقول زهير إبراهيم أبو خاطر، وهو لاجئ من قرية يبنا، دمّر القصف الإسرائيلي بيته في بيت حانون في 11 أيّار الفائت، وهو المنزل الذي عاشت فيه ثلاثة أجيال من عائلته: «أتينا إلى [غزة] عاجزين، واعتقدنا أننا سنعيش بأمان إلا أننا لم نكن يوما آمنين، أو سعداء، أو مستقرين. فنحن مشردون منذ اليوم الأول، ومنازلنا ما زالت تُدمّر، في يبنا وفي غزة، منذ خمسة وسبعين عاما وحتى الآن».

يستخدم الكثير من الفلسطينيين مصطلح «النكبة المستمرة»، حيث يستمر سلب الفلسطينيين أرضهم وطردهم من بيوتهم بأشكال مختلفة. وما لم ننظر إلى هذا السياق التاريخي، فإن مجرد تقارير البيوت المهدمة في غزة تبقى غير مكتملة. «نحن كلاجئين فلسطينيين غير مرئيين بالنسبة إلى العالم، لا أحد يرانا أو يسمعنا»، يقول أبو خاطر وهو يجلس على بعد أمتار من منزله المهدّم.

عائلة عليوة، لاجئون من بئر السبع

ثلاثة أجيال من عائلة عليوة، وهم لاجئون من بئر السبع، يقفون على أنقاض منازلهم التي دمرتها الغارات الجوية الإسرائيلية، في مخيم النصيرات للاجئين. تصوير آن باك.

«أعرف قصصًا عن جدي، وقد كان لديه دكان صغير ومنزل في قرية الزريعي بالقرب من بئر السبع. لقد فرّوا بعد سماع روايات عن الهجمات الصهيونية والقتل. ما زلنا نملك المفتاح إلا أن الذكريات انمحت. لا نعرف ماذا حصل للدكان أو المنزل. ما زلنا نناضل مثل أجدادنا. انظري حولك، لقد هُدم منزلنا مثل منزل أجدادنا. كنا في السابق معًا، بتنا الآن مفرقين وبلا مأوى. يستمر التاريخ في تكرار ذاته».
يزيد محمد عليوة

أربعة منازل تعود إلى عشيرة عليوة دمرت تمامًا، وثلاثة منازل دمرت جزئيًا، مما أسفر عن تشريد حوالي 40 شخصًا. تصوير آن باك.

«كان لدي تصريح إسرائيلي، لكنّي لم أرغب يومًا بزيارة بئر السبع المحتلة. لم تكن لدي رغبة بمشاهدة الإسرائيليين يعيشون هناك في الأرض والبيوت التي سرقوها. ما المغزى من زيارتي ذلك المكان؟ لأصبح غاضبًا وحزينًا؟ بعد كل تلك المعاناة التي مررت بها، ماذا يمكن أن يقال أو يحس به؟ عندما سمعنا ببدء العدوان، بدأنا بالدعاء. عندما سمعت بدمار منازل أحفادنا، أصابني الإحباط. التاريخ يعيد نفسه كل مرة، لم يتغير شيء».
إبراهيم عودة حمدان عليوة

إبراهيم عودة حمدان عليوة 96 عامًا، يقف في حديقة منزل ابنته في دير البلح. تصوير آن باك.

شهد إبراهيم النكبة وما تلاها من عدوان إسرائيلي. كانت عائلته تعيش بالقرب من بئر السبع، حيث كانوا يزرعون الأرض ويربون الماشية ويعيشون «حياة بسيطة».

عائلة مهنا، لاجئون من المسمية

انتصار إبراهيم حرب مهنا وعمرها 93 عامًا في منزل ابنتها. تصوير آن باك.

كانت انتصار من عائلة مرموقة في قرية المسمية إلى الجنوب من مدينة الرملة، إذ كان والدها المختار، وكانوا يمتلكون العديد من دونمات الأرض، ويزرعون أشجار الحمضيات والزيتون والحبوب وغيرها. وكانت لدى عائلة مهنا منزل كبير وديوان، مبني بحجارة من القدس. عندما كانت  انتصار في سن 18، وعلى وشك الزواج، شهدت وصول العصابات وتدمير المنزل الذي كان يفترض أن تنتقل إليه مع خطيبها. أمّا شقيقها جمال فقد اغتالته العصابات الصهيونية. أُجّل الزواج وفرّت العائلة إلى غزة، بعد أن خسرت كل أملاكها. اضطر خطيبها إلى العمل في الكويت لمدة سنتين حتى يجني ما يكفي من مال من أجل العرس.

والآن بعد مرور عقود ها هي تشهد مرة أخرى دمار منزلها. فقد أيقظها حفيدها في منتصف الليل وأخذها دون أن تدري بما كان يجري. بعد مرور أيام أخبرتها عائلتها عن دمار منزلها المؤلف من أربعة طوابق وقد أسهمت في بنائه من المال الذي حصلت عليه من بيع ذهب العرس، وكان البيت يضمّ العائلة المكوّنة من أربعة أجيال بكاملها.

حازم عادل مهنا، 62 عامًا، يظهر بعض أوراقه النقدية القديمة، بينما يجلس بجانب حطام بيته في مدينة غزة. تصوير آن باك.

في هذه الصورة، يعرض حازم مجموعة من التحف العتيقة الذي اندثر الجزء الأكبر منها تحت الأنقاض، وقد توفي حازم بنوبة قلبية مفاجئة بعد التقاط هذه الصورة بأسابيع.

«شن الهجوم في منتصف الليل، وقد أصابتنا الصدمة حيث لا يوجد هنا إلا المدنيون. كنا حوالي 50 شخصًا داخل البناء ساعة الهجوم. فقد جاءت بناتي إلى منزلي طلبًا للحماية! هربنا وصرخنا على الجيران كي يهربوا أيضًا. كان الوضع مثيرًا للهلع؛ خرجت النساء وقد لففن أجسادهن بالبطانيات. لم نأخذ شيئًا معنا. أصابت أخي سكتة قلبية وما زال في المستشفى. كل شيء بات تحت الركام: الأوراق ووثائق السفر وكل شيء.
كيف نفسر كوننا لاجئين؟ هاجمنا الصهاينة، وقتلوا النساء والأطفال؛ هربنا وخسرنا كل شيء وأصبحنا لاجئين. سألنا أنفسنا هل علينا أن نموت أو نهرب بعيدًا؟ هم يقتلوننا كل يوم. نحن مثل الأحياء الأموات».
حازم عادل مهنا

فرد من عائلة مهنا يجلس بجانب أنقاض منزله في مدينة غزة. تصوير آن باك.

استُهدف منزل عائلة مهنا بالغارات الجوية الإسرائيلية في ليلتي 12 و13 أيار، مما أسفر عن دمار المنزل المؤلف من أربعة طوابق. تحتوي المنطقة على كثافة سكانية عالية وقد تضررت البنايات المحيطة بشكل كبير. أقام في المبنى 87 شخصًا، ضمنهم عشرون طفلًا. كان هناك خمسون فردًا من الأسرة ساعة الهجوم، حيث أتى بعض أفراد العائلة للإقامة بينهم لاعتقادهم أنه أكثر أمانًا. تعيش في المبنى أربعة أجيال من عائلة مهنا بما فيهم أحد الناجين من النكبة.

فريـال عادل محمد مهنا تنظر إلى قريتها المدمرة من خلال مكالمة فيديو. تصوير آن باك.

أُفرغت المسمية كليًا من سكانها من جانب العصابات الصهيونية عام 1948. وفي الصور نرى بقايا مدرسة الأولاد تقع خلف السياج، بينما تستخدم المنطقة بأكملها كمركز تدريب للضباط الإسرائيليين وحراس السجون. وقد بني عدد من المستوطنات الإسرائيلية على أراضي المسمية، ولم يتبق من القرية القديمة إلا عدد قليل من البيوت.

عائلة الحشاش، لاجئون من منطقة بئر السبع

عايش مسيد الحشاش وزوجته فايزة زريعي سالم الحشاش. تصوير آن باك.

في الصورة، يجلس عايش وفايزة وهما من مواليد عام 1952، أمام منزلهما المهدم في رفح. والعائلة من لاجئي منطقة بئر السبع.

كان والدا فايزة مزارعيْن يملكان خمسين دونمًا مزروعة بالبطيخ والحبوب. تذكرت فايزة كيف روى لها والدها العديد من الروايات حول النكبة: «بكى والدايْ من أجل حيواناتهم التي تركوها خلفهم، الكثير من الخراف والماعز والأبقار. لم يكن بإمكانهم إلا أخذ بعضها، حيث اعتادت العصابات الصهيونية على مهاجمتهم حتى وهم يخلون المنطقة»، كما تستعيد من ذكريات والدها.

بعد أن اضطرت العائلة عام 1948 إلى الفرار من أرضهم في بئر السبع، وصلوا إلى مخيم اللاجئين في الشبورة في رفح، قطاع غزة.

«أنا قاربت على الموت، والحياة ما زالت كما هي عندما ولدت، نحن نُشرّد وتهدم منازلنا في كل دقيقة. عمري الآن 71 عامًا، وقد واجهت نفس المشاكل منذ اليوم الأول وحتى الآن. التاريخ يعيد نفسه، ونحن مشردون. إنه نفس تاريخ أبي وتاريخي».
عايش مسيد الحشاش

عائلة الحشاش، لاجئون من بئر السبع.

دُمّر 12 منزلًا لعشيرة الحشاش وجيرانهم عائلة الملالحة، أو تضررت بشكل كبير جراء غارات 12 أيار. لم يكن أمامهم سوى دقائق معدودة للإخلاء. يعاني عايش من مشاكل في المشي، وبما أنه لم يتمكن من الذهاب بعيدًا، أصيب بالرأس من الأنقاض المنهارة.

عايش الحشاش وزوجته فايزة أمام منزلهما المهدم. تصوير آن باك.

عائلة أبو خاطر، لاجئون من يبنا

زهير إبراهيم أبو خاطر وزوجته صباح علي أبو خاطر، لاجئان من قرية يبنا، يقفان أمام منزل جيرانهم المتضرر، على بعد أمتار من منزلهما المهدم. تصوير آن باك.

كان المنزل يؤوي 10 أشخاص من عائلة أبو خاطر يمثلون ثلاثة أجيال، ضمنهم الأطفال، وكان العديد من أفراد العشيرة متواجدين في منازلهم وقت الهجوم، حيث كانوا سيزورون عائلة عروسهم في اليوم التالي. وكان الذهب والمال جاهزًا لمنحه لعائلة العروس.

«دعا جيش الاحتلال الجيران لإخلاء المنطقة ونسوا من الصدمة إخبارنا. وظنوا أننا نعلم. صرخنا على الجميع ليخلي ونسينا من الهلع المال الذي كنا ندخره لعرس ابننا، بلغ الذهب والمال حوالي 2500 دينار، كلها باتت تحت الأنقاض الآن».
زهير إبراهيم محمد أبو خاطر

منارة المسجد القديم في قرية يبنا المفرغة من السكان بالقرب من الرملة. تصوير آن باك.

لم يتبق من أراضي قرية يبنا سوى عدد من الأبنية، وكان عدد سكانها قبل النكبة يبلغ حوالي ستة آلاف نسمة، قبل أن تطهّر عرقيًا، وتقام على أرضها مدينتا يافني وبيت رابان.

«كان جدي محمد ووالدي إبراهيم مدنيين يعيشان أفضل سنواتهما في مزرعتهما عام 1948. وقد تم إخلاءهم فجأة بطريقة قاسية، حيث هاجمتهم العصابات الصهيونية وهم في منزلهم. كان والدي يبلغ أربعة أو خمسة أعوام حينها. وقد توفي وعمره ثمانون عامًا. كان يتحدث مطولا عن يبنا. ويتحدث عن العودة إلى هناك، وعن مزرعتهم وأشجار الزيتون والأبقار التي تركوها خلفهم. كان لدينا سبعة  دونمات. عندما كنت أعمل في «إسرائيل»، كنت أنظر إلى يبنا من التاكسي ونحن نمر من هناك. إلا أني لم أصلها أبدًا.
انظري حولك، مئات البيوت سويت بالأرض. هل قال العالم شيئًا؟ هل فعلنا بـ«إسرائيل» شيئًا كهذا؟ لقد كانوا يهاجموننا منذ النكبة، أي منذ 75 عامًا ويشردوننا. جئنا إلى غزة بلا حول ولا قوة، وظننا أننا سنعيش هنا بأمان إلا أننا لم نكن أبدًا بأمان، ولم نكن سعداء، ولم نستقر أبدًا. لقد شردنا منذ اليوم الأول، وما زالت منازلنا تتهدم، في يبنا وفي غزة. منذ 75 عامًا وحتى الآن».
زهير إبراهيم محمد أبو خاطر

محمد (سبعة أعوام)، محمود (تسعة أعوام)، أحمد (خمسة أعوام)، يوسف عوض الله يقفون في غرفة نومهم المدمرة. تصوير آن باك.

يقع منزل هؤلاء الأطفال إلى جانب منزل عائلة أبو خاطر الذي استهدف في 11 أيار. أفراد العائلة لاجئون من قرية حليقات.

«إنهم مصدومون ويلتصقون بي طوال الوقت. أحاول ما بوسعي دعمهم والاعتناء بهم، هذا ما علينا فعله. أصابت ابني الأصغر أحمد نوبة هلع من الصدمة. لم يستطع التنفس وكاد قلبه يتوقف. واضطررت أن أجري له تنفسًا صناعيًا. إنهم متعلقون جدًا بي. يستيقظ أحمد عدة مرات في الليل ويأتي للنوم معنا. لقد استأجرنا منزلًا جديدًا الآن».
يوسف سوقة عوض الله

تجلس صباح أبو خاطر على عتبة بيت جيرانها بالقرب من ركام منزلها المهدم حيث عاشت أجيال من عائلتها. تصوير آن باك.

«نحن متعبون ومنهكون، والنوم يجافينا. أستيقظ وأجلس هنا لأنظر إلى ركام منزلي. خسرنا كل شيء تحت هذا الركام. والأطفال بالكاد يتكلمون منذ القصف. نقيم في منزل جيراننا، وهو مدمّر جزئيًا. لقد أخلوا وتركونا هنا لنجلس بجانب الركام. ليس لدينا كهرباء أو ماء. لم نحصل على أية مساعدة، سوى القليل من المال لاستئجار منزل لشهر أو شهرين. إلا أننا لا نستطيع الاستئجار، علينا أن نبقى بالقرب من المنزل المهدم على أمل إيجاد الذهب والمال الذي ادخرناه».
صباح أبو خاطر

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية